فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (97):

القول في تأويل قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [97].
{الْأَعْرَابُ} وهم أهل البدو {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} أي: من أهل الحضر، لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعدٍ من مشاهدة العلماء، ومعرفة الكتاب والسنة: {وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي: وأحق بجهل حدود الدين، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي: يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر {حَكِيمٌ} أي: فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم، مخطئهم ومصيبهم، من عقابه وثوابه.
لطائف:
الأولى: قال الشهاب: العرب، هذا الجيل المعروف مطلقاً، والأعراب سكان البادية منهم، فهو أعم.
وقيل: العرب سكان المدن والقرى، والأعراب سكان البادية من العرب، أو مواليهم، فهما متباينان، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما.
الثانية: ما ذكر في الآية من أجدرية جهل الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع، وملابسة أهل الحق، يشير إلى ذم سكان البادية وهو يطابق ما رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا»، وتتمته: «ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الجفاء والقسوة في الفدادين».
قال ثعلب: الفدادون أصحاب الوبر، لغلظ أصواتهم، وهم أصحاب البادية، ويقال: من صحب الفدادين، فلا دنيا نال ولا دين.
مأخوذ من الفديد، وهو رفع الصوت أو شدته.
قال ابن كثير: ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي، لم يبعث الله منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}.
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه أَضعافها حتى رضي قال: «لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي»، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب، لما في طباع الأعراب من الجفاء.
الثالثة: روي الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني! فقال زيد: ما يريبك من يدي، إنها الشمال؟ فقال الأعرابي: والله! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد من صوحان: صدق الله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}.
ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب، بقوله:

.تفسير الآية رقم (98):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [98].
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} أي: يعدّ ما يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به صورةً، غرامةَ وخسراناً، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياءً، لا لوجه الله عزَّ وجلَّ، وابتغاء المثوبة عنده.
والغرامة والمغرم والغُرم بالضم: ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه، ضرراً محضاً وخسراناً.
وقال الراغب: الغرم ما ينوب الْإِنْسَاْن في ماله من ضرر لغير جناية منه، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أي: ينتظر بكم دوائر الدهر- جمع دائرة وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء-، فتربص الدوائر، انتظار المصائب، ليقلب أمر المسلمين ويتبدل، فيخلصوا مما عدّوه مغرماً {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} اعتراض بالدعاء عليهم، بنحو ما يتربصونه، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم.
قال الشهاب: الدائرة إسم للنائبة، وهي بحسب الأصل مصدر، كالعافية والكاذبة، أو إسم فاعل بمعنى عقبة دائرة، والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما.
ويقال: للدهر عُقَب ونُوَب ودُوَل، أي: مرة لهم ومرة عليهم.
والسوء يقرأ بضم السين وهو الضرر، وهو مصدر في الحقيقة. يقال: سؤته سوءاً ومساءةًَ ومسائية، ويقرأ بفتح السين وهو الإفساد والرداءة- قاله أبو البقاء-.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي: لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه {عَلِيمٌ} أي: بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر. وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.
ثم نوّه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [99].
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}. امتثالاً لأمره، وترجيحاً لحبه، وقطعاً لحب ما سواه.
و: {قُرُبَاتٍ} مفعول ثان ليَتَّخِذُ، وجمعها باعتبار أنواعها، أو أفرادها.
قال الشهاب: القُربة بالضم، ما يتقرب به إلى الله، ونفس التقرب، فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها سبباً له، على التجوز في النسبة أو التقدير.
و: {عِنْدَ اللَّهِ} صفة لقُرُبَاتٍ، أي: ظرف ليَتَّخِذُ {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي: سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} الضمير لما ينفق، والتأنيث باعتبار الخير، والتنكير للتفخيم، أي: قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات، يكملها الله بدعوة الرسول، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي: جنته.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يستر عيب المخلّ: {رَحِيمٌ} يقبل جهد المقلّ.
قال الزمخشري: قوله تعالى: {ألَا إِنَّهَا} شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقاً لرجائه، على الإستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه.
وكذلك: {سَيُدْخِلُهمُ} وما في السين من تحقيق الوعد.
وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها. انتهى.
وفيه الإنتصاف: النكتة في إشعار السين بالتحقيق أن معنى الكلام معها: أفعل كذا، وإن أبطأ الأمر، أي: لابد من فعله، قال الشهاب: وفيه تأمل.
ولما بيّن تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم، تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (100):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [100].
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} أي: ممن تقدم بالهجرة والنصرة. وقيل: عني بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين، أو من شهد بدراً، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، فعلمهم القرآن.
واختار الرازي الوجه الأول، وقال: والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا؟
فبقي اللفظ مجملاً، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه: {السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} في الهجرة والنصرة، إزالة للإجمال عن اللفظ.
وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولاً، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة، وكان ذلك مقوّياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم.
وقرئ {الأنصارُ} بالرفع، عطفاً على {السابقون}.
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي: سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة.
والنصرة منقبة شريفة، لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم- قاله المهايمي-.
{وَرَضُوا عَنْهُ} بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان، وما آتاهم من الثواب والكرامة {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان- قاله المهايمي-.
وقرأ ابن كثير: {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} كما هو في سائر المواضع.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله، وتأسيس قواعده، إلى يوم القيامة، والعمل بمقتضاه، واختيار الباقي على الفاني {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: الذي لا فوز وراءه.
تنبيهات:
الأول: قال في الإكليل: في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.
الثاني: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فمن بيانية لتقدمهم على من عداهم.
وقيل: بعضهم- وهم قدماء الصحابة- ومن تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولاً، ورأى آخرون الأول.
روي عن حميد بن زياد قال: قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم؟ وأرد الفتن- فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم.
قلت له: {والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ} الآية، فأوجب للجميع الجنة والرضوان، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسناً لا سوءاً.
أي: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ}.
الثالث: قال الشهاب: تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [101].
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يعني حول بلدتكم، وهي المدينة {مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}
أي: مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه {لا تَعْلَمُهُمْ} دليل لمرانتهم عليه، ومهارتهم فيه، أي: يخفون عليك، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية، والتحامي عن مواقع التهم.
قال في الإنتصاف وكأن قوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به. انتهى.
وقوله تعالى: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الإهتمام بإبطان الكفر، وإظهار الإخلاص.
وقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} للمفسرين في المرتين وجوه: إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار، أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرماً بحتاً، ونهك الأبدان، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب.
وقال محمد بن إسحاق: هو- فيما بلغني عنهم- ما هم من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إليه، عذاب الآخرة، ويخلدون فيه.
قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه.
ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما في قوله تعالى: {فَارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد أخرى، لقوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ}.
تنبيه:
لا ينافي قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، وإن كان يراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة، ما رواه الإمام أحمد عن جبير ابن مطعم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: «لتأتينكم أجوركم، ولو كنتم في حجر ثعلب».
وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: «إن في أصحابي منافقين، أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له».
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء، أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل له لسانا ذاكراً، وقلباً شاكراً، ارزقه حبي وحب من يحبني، وصيّر أمره إلى خير». فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: «من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه، فالله أولى به، ولا تخرقنّ على أحد ستراً»- ورواه الحاكم أيضاً-.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس، فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك! قال نبيّ الله نوح عليه السلام: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}.
لطيفة:
قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} عطف على: {مِمَّنْ حَوْلَكُمْ} عطف مفرد على مفرد.
وقوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، مسوقة لبيان علوّهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به، وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه به عطف على خبره، وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه، وهو مبتدأ خبره.
{مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} والجملة عطف على الجملة السابقة، أي: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق- أفاده أبو السعود-.
ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة، رغبة عنها وتكذيباً وشكاً، بيّن حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال عز شأنه: